وقف الإسلام من السحر موقفا حاسما، فسدّ كل طريق يؤدي إليه، وحرّم تعلمه وتعليمه وممارسته، منعا لضرره، وحسما لمادة الخرافة أن تتسلل إلى عقول المسلمين فتعطلها عن التفكير الصحيح، والتخطيط القائم على قانون الأسباب والمسببات الذي قام عليه نظام الكون.
فالسحر كما أخبر الله عنه طريق للفساد وسبب للضرر بين العباد، وهو فوق ذلك كله سبب للكفر بالله سبحانه والخروج عن دينه وشرعه .
وفي الاصطلاح الشرع عرفه ابن قدامة بأنه: " عزائم ورقى وعُقَد يؤثر في القلوب والأبدان، فيُمرض ويقتل، ويفرق بين المرء وزوجه، ويأخذ أحد الزوجين عن صاحبه".
وعرّفه أبو بكر الرازي بأنه: " كل أمر خفي سببه، وتُخِيِلَ على غير حقيقته، ويجري مجرى التمويه والخُدَع".
((واختلاف التعريفين مرده أن كلاً منهما قائم على مذهب يختلف عن الآخر، فتعريف ابن قدامة قائم على أن للسحر حقيقة، أما تعريف الرازي فهو قائم على مذهب من لا يرى للسحر حقيقة وأنه مجرد خدع وتمويهات وتخييل)).
والقول الأول هو قول أهل السنة والجماعة، قال الإمام النووي : "والصحيح أن السحر له حقيقة، وبه قطع الجمهور، وعليه عامة العلماء... " وقال الإمام القرطبي - رحمه الله - : "ذهب أهل السنة إلى أن السحر ثابت وله حقيقة ". وقال الإمام ابن القيم : "وقد دل قوله تعالى: { ومن شر النفاثات في العقد }( الفلق:4 ) وحديث عائشة رضى الله عنها على تأثير السحر وأن له حقيقة ".
ومن أدلتهم على ذلك قوله تعالى:{ واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله ويتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم ولقد علموا لمن اشتراه ما له في الآخرة من خلاق ولبئس ما شروا به أنفسهم لو كانوا يعلمون }(البقرة: 102 ) ووجه الدلالة من الآية أن الله أخبر فيها أن للسحر آثاراً محسوسة كالتفريق بين المرء وزوجه، وأن له ضرراً مباشرا – يحصل بإذن الله –، وهي آثار محسوسة لا يمكن إنكارها، مما يدل على أن للسحر حقيقة، وليس مجرد خُدَع وتخيلات.!! والواقع المشاهد يقرر هذا ويؤيده .
أما القائلون بأن السحر لا حقيقة له - وهو قول عامة المعتزلة وآخرين - فيتلخص رأيهم في أن السحر مجرد تمويه وتخييل فلا تأثير له لا في مرض، ولا حَلٍّ، ولا عَقْدٍ، وبناءً عليه فإنهم يجعلون السحر نوعاً واحداً وهو سحر التخييل.
يقول القاضي عبد الجبار: " إن السحر في الحقيقة لا يوجب المضرة لأنه ضرب من التمويه والحيلة…" ، ويقول أبو منصور: " والأصل أن الكهانة محمول أكثرها على الكذب والمخادعة، والسحر على التشبيه والتخييل"، ويقول ابن حزم : "…وقد نص الله عز وجل على ما قلنا فقال تعالى: { فإذا حبالهم وعصيهم يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى }(طه:66) فأخبر الله تعالى أن عمل أولئك السحرة إنما كان تخيلاً لا حقيقة..." والاستدلال بهذه الآية مدفوع إذ ليس فيها أن السحر لا يكون إلا من قبيل التخييل، بل غاية ما تدل عليه الآية أن سحر السحرة في زمن فرعون والذي وقع في ذلك الموطن كان من ذلك القبيل، لا أن كل أنواع السحر كذلك .
الأنواع: تتعدد أنواع السحر بتعدد الاستعانات التي يستعين بها الساحر في تحقيق غرضه، فمن السحرة من يزعم الاستعانة بالكواكب، ومنهم من يستعين بالجن، ومنهم من يستعين بالنفخ في العقد، ومنهم من قصارى أمره خفة اليد وسرعة الحركة.
الأثار: للسحر آثار مدمرة على الفرد والمجتمع، وقد أجمل القرآن مفاسد السحر فذكر في مقدمتها الكفر بالله سبحانه، والتفريق بين المرء وزوجه، وإدخال الضرر على العباد، قال تعالى : { وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله ويتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم ولقد علموا لمن اشتراه ما له في الآخرة من خلاق } يقول القرطبي في تفسير الآية: " ولا ينكر أن السحر له تأثير في القلوب، بالحب والبُغْض، وبإلقاء الشرور حتى يفرّق الساحر بين المرء وزوجه، ويحول بين المرء وقلبه، وذلك بإدخال الآلام وعظيم الأسقام، وكل ذلك مدرك بالمشاهدة وإنكاره معاندة".
علاج السحر وإبطاله:
أولاً: لعلاج السحر وإبطاله طرق متعددة ذكرها ابن القيم في "الطب النبوي" أحدها: وهو أبلغها استخراجه وإبطاله كما صح أن النبي - صلى الله عليه وسلم -عندما دلّه ربه سبحانه على موضع سحره استخرجه . فلما استخرجه ذهب ما به حتى كأنما نشط من عقال . فهذا من أبلغ ما يعالج به المسحور، وهذا بمنزلة إزالة المادة الخبيثة وقلعها من الجسد بالاستفراغ .
ثانياً: إبطاله بالرقية الشرعية بقراءة آيات من القرآن، روى البيهقي في "الدلائل" عن عائشة رضي الله عنها، في قصة سحر لبيد للنبي صلى الله عليه وسلم وفيه :فأتاه جبريل بالمعوذتين فقال: يا محمد { قل أعوذ برب الفلق } وحلَّ عقدة { من شر ما خلق } وحلَّ عقدة حتى فرغ منها، ثم قال: { قل أعوذ برب الناس } وحلَّ عقدة حتى فرغ منها وحل العقد كلها .
ومما ذكره أهل العلم من آيات الرقية الشرعية لحل السحر قراءة آية الكرسي، وقل يا أيها الكافرون، وقل هو الله أحد، وقل أعوذ برب الفلق، وقل أعوذ برب الناس، وآيات السحر التي في سورة الأعراف وهي قوله تعالى: { وأوحينا إلى موسى أن ألق عصاك فإذا هي تلقف ما يأفكون فوقع الحق وبطل ما كانوا يعملون فغلبوا هنالك وانقلبوا صاغرين وألقي السحرة ساجدين قالوا آمنا برب العالمين رب موسى وهارون }(الأعراف: 117-122).
والآيات التي في سورة يونس: وهي قوله تعالى: { وقال فرعون ائتوني بكل ساحر عليم فلما جاء السحرة قال لهم موسى ألقوا ما أنتم ملقون فلما ألقوا قال موسى ما جئتم به السحر إن الله سيبطله إن الله لا يصلح عمل المفسدين ويحق الله الحق بكلماته ولو كره المجرمون }(يونس: 79-82 ) والآيات التي في سورة طه: وهي قوله تعالى: { قالوا يا موسى إما أن تلقي وإما أن نكون أول من ألقى قال بل ألقوا فإذا حبالهم وعصيهم يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى فأوجس في نفسه خيفة موسى قلنا لا تخف إنك أنت الأعلى وألق ما في يمينك تلقف ما صنعوا إنما صنعوا كيد ساحر ولا يفلح الساحر حيث أتى }(طه: 65-69).
ثالثاً: العلاج باستعمال أدوية مباحة نص عليها رسول الهدى صلى الله عليه وسلم منها: التصبح كل يوم بسبع تمرات من عجوة المدينة، فعن عامر بن سعد عن أبيه رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( من تصبح كل يوم سبع تمرات عجوة لم يضره في ذلك اليوم سم ولا سحر ) رواه البخاري .
والعجوة: ضرب من أجود تمر المدينة وألينه , والاصباح: تناول الشيء صباحاً.
رابعاً: العلاج بالحجامة في المحل الذي يصل إليه أذى السحر. قال ابن القيم : " .. الاستفراغ في المحل الذي يصل إليه أذى السحر؛ فإن للسحر تأثيراً في الطبيعة وهيجان أخلاطها وتشويش مزاجها، فإذا ظهر أثره في عضو وأمكن استفراغ المادة الرديئة من ذلك العضو نفع جداً ".
خامساً: استعمال ورق السدر مع الرقية: يقول القرطبي في تفسيره: " روي عن ابن بطال قال: "وفي كتاب وهب بن منبه أن يأخذ سبع ورقات من سدر أخضر فيدقه بين حجرين ثم يضربه بالماء ويقرأ عليه آية الكرسي ثم يحسو – يشرب - منه ثلاث حسوات – جرعات -، ويغتسل به فإنه يذهب عنه كل ما به - إن شاء الله تعالى - وهو جيد للرجل إذا حبس عن أهله".
كان ذلك تعريف بالسحر وأنواعه وأضراره ومفاسده، وهي مفاسد جمة، وأضرار عظيمة، تستدعي من الفرد والمجتمع الوقوف ضدها، والتعاطي بفاعلية مع هذه الظاهرة بمعالجة أسبابها، وبيان أضرارها، حيث لم يعد السحر ظاهرة فردية متخفية، وإنما غدا - في كثير من البلاد - ظاهرة تستقطب الكبار من رجال السياسة والأثرياء والجهلة والدهماء، وأصبح الساحر – وهو الكذاب الدجال – شخصية لها وزنها، وكل ذلك يعد انقلابا في القيم، وتغييراً في الحقائق، وانحرافاً في السلوك، ينبغي الوقوف أمامه والتصدي له بالعلم والمعرفة، والبحث في حيل السحرة وكشفها للعامة، وبيان جهلهم ودجلهم، وأكلهم أموال الناس بالباطل، فذلك حري بتنفير الناس عنهم، وانفضاض الجمع من حولهم .